فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (152):

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين سبحانه وتعالى ما أعد لهم بيّن ما أعد لأضدادهم من أهل طاعته بقوله: {والذين ءامنوا بالله} أي الذي له الكمال والجمال {ورسله} ولما جمعوهم في الإيمان ضد ما فعل أهل الكفران، صرح بما أفهمه فقال: {ولم يفرقوا} أي في اعتقادهم {بين أحد منهم} أي لم يجعلوا أحدًا منهم على صفة الفرقة البليغة من صاحبه بأن كفروا ببعض وآمنوا ببعض- كما فعل الأشقياء، والتفرقة تقتضي شيئين فصاعدًا، وأحد عام في الواحد المذكر والمؤنث وتثنيتهما وجمعهما، فلذلك صح التعبير به بمعنى: بين اثنين أو جماعة، وكأنه اختير للمبالغة بأن لو أن الواحد يمكن فيه التفرقة فكان الإيمان بالبعض دون البعض كفرًا {أولئك} أي العالو الرتبة في رتب السعادة.
ولما كان المراد تأكيد وعدهم، وكان المشاهد فيه غالبًا التأخر قال: {سوف نؤتيهم} أي بما لنا من العظمة بوعد لا خلف فيه وإن تأخر، فالمراد تحقيقه، لا تحقيق تأخره، ولكنه أتى بالأداة التي هي أكثر حروفًا وأشد تنفيسًا، لأن هذا السياق لأهل الإيمان المجرد، الشامل لمن لم يكن له عمل، ولذا أضاف الأجور إليهم، وختم بالمغفرة لئلا يحصل لهم بأس وإن طال المدى {أجورهم} أي كاملة بحسب نياتهم وأعمالهم.
ولما كان الإنسان محل النقصان قال: {وكان الله} أي الذي لا يبلغ الواصفون كنه ما له من صفات الكمال {غفورًا} لما يريد من الزلات {رحيمًا} أي بمن يريد إسعادة بالجنات. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

إنما قال: {وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} مع أن التفريق يقتضي شيئين فصاعدًا إلاّ أن أحدًا لفظ يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ويدل عليه وجهان: الأول: صحة الاستثناء.
والثاني: قوله تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء} [الأحزاب: 32].
إذا عرفت هذا فتقدير الآية: ولم يفرقوا بين اثنين منهم أو بين جماعة. اهـ.

.قال الألوسي:

{والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} بأن يؤمنوا ببعض ويكفروا بآخرين كما فعل الكفرة، ودخول بين على {أَحَدٌ} قد مرّ الكلام فيه.
والموصول مبتدأ خبره جملة قوله: {أولئك} أي المنعوتون بهذه النعوت الجليلة {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ} أي الله تعالى: {أُجُورَهُمْ} الموعودة لهم، فالإضافة للعهد.
وزعم بعضهم أن الخبر محذوف أي أضدادهم ومقابلوهم، والإتيان بسوف لتأكيد الموعود الذي هو الإيتاء والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تأخر لا الإخبار بأنه متأخر إلى حين، فعن الزمخشري أن يفعل الذي للاستقبال موضوع لمعنى الاستقبال بصيغته؛ فإذا دخل عليه سوف أكد ما هو موضوع له من إثبات الفعل في المستقبل لا أن يعطي ماليس فيه من أصله فهو في مقابلة لن ومنزلته من يفعل منزلة لن من لا يفعل لأن لا لنفي المستقبل فإذا وضع لن موضعه أكد المعنى الثابت وهو نفي المستقبل فإذًا كل واحد من لن وسوف حقيقته التوكيد، ولهذا قال سيبويه: لن يفعل نفي سوف يفعل وكأنه اكتفى سبحانه ببيان ما لهؤلاء المؤمنين عن أن يقال: أولئك هم المؤمنون حقًا مع استفادته مما دل على الضدية، وفي الآية التفات من التكلم إلى الغيبة.
وقرأ نافع وابن كثير وكثير نؤتيهم بالنون فلا التفات. اهـ.

.قال الفخر:

تمسك أصحابنا بهذه الآية في إثبات العفو وعدم الاحباط فقالوا: إنه تعالى وعد من آمن بالله ورسله بأن يؤتيهم أجورهم، والمفهوم منه يؤتيهم أجورهم على ذلك الإيمان، وإلاّ لم تصلح هذه الآية لأن تكون ترغيبًا في الإيمان، وذلك يوجب القطع بعدم الإحباط والقطع بالعفو وبالإخراج من النار بعد الإدخال فيها. اهـ.
قال الفخر:
قوله تعالى: {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} معناه أن إيتاءها كائن لا محالة وإن تأخر فالغرض به توكيد الوعد وتحقيقه لا كونه متأخرًا. اهـ.
قال الفخر:
قوله تعالى: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} المراد أنه وعدهم بالثواب ثم أخبرهم بعد ذلك بأنه يتجاوز عن سيئاتهم ويعفو عنها ويغفرها. اهـ.

.قال في روح البيان:

اعلم أن الإيمان والتوحيد هو أصل الأصول وهو وإن كان لا يزيد ولا ينقص عند الإمام الأعظم إلا أن نوره يزيد بالطاعات وينقص بالسيآت فينبغي لطالب الحق أن يراعي أحكام الشريعة وآداب الطريقة ليتقوى جانب روحانيته فإن أنوار الطاعات كالأغذية النفيسة للأرواح خصوصًا نور التوحيد والذكر ولذكر الله أكبر وهو العمدة في تصفية الباطن وطهارته.
قال سيد الطائفة الجنيد قدس سره: الأدب أدبان فأدب السر طهارة القلب وأدب العلانية حفظ الجوارح من الذنوب فعليك بترك الشرور والإيمان الكامل بالله الغفور حتى تنال الأجر الموفور والسرور في دار الحضور. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)}
لما آمنوا بجميع الرسل، وصَدَقُوا في جميع ما أُمِروا به استوجبوا القبول وحسن الجزاء. وتقاصر الإيمان عن بعض الأعيان كتقاصره عن بعض الأزمان، فكما أنه لا يقبل إيمان من لم يستغرق إيمانه جميع (....) إلى آخر ما له- كذلك لا يقبل إيمان من لم يستغرق إيمانه جميع من أُمِرَ بالإيمان به؛ إذ جعل ذلك شرط تحقيقه وكماله. فالإشارة في هذا أن من لم يخرج عن عهدة الإلزام بالكلية فليس له من حقيقة الوصل شظية، قال صلى الله عليه وسلم: «الحجُّ عرفة» فمن قطع المسافة- وإن كان من فج عميق- ثم بقي عن عرفات بأدنى بقية لم يُدْرِك الحج. وقال صلى الله عليه وسلم: «المكاتَبُ عَبْدٌ ما بقي عليه درهم». اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}
بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ مِنْ أَوَاخِرِ الْجُزْءِ الْمَاضِي مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ مِمَّا قَبْلَهَا بِالْإِجْمَالِ، وَلِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مُنَاسِبَةٌ مَعَ مَا قَبْلَهُمَا وَمَا بَعْدَهُمَا وَإِنْ كَانَتَا كَالْغَرِيبَتَيْنِ فِي هَذَا السِّيَاقِ الشَّارِحِ لِأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ وَمُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى بَيَّنَ فِيهِ كَثِيرًا مِنْ عُيُوبِهِمْ وَمَفَاسِدِهِمْ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَتَحْذِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مِثْلِ أَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَكْرَهُ لَهُمْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [57: 16] ثُمَّ بَيَّنَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ حُكْمَ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ وَإِبْدَاءِ الْخَيْرِ وَإِخْفَائِهِ لِئَلَّا يَسْتَدِلَّ الْمُؤْمِنُونَ بِذِكْرِ عُيُوبِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ أَوْ مَشْرُوعِيَّتِهِ إِذَا كَانَ حَقًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَفْشُو ذَلِكَ فِيهِمْ، وَفِيهِ مِنَ الضَّرَرِ مَا تَرَى بَيَانَهُ فِيمَا يَلِي:
قَالَ تَعَالَى: {لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} يُنْسَبُ الْحُبُّ وَالْبُغْضُ أَوِ الْكُرْهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالْمَعْنَى الَّذِي يَلِيقُ بِهِ، وَيَلْزَمُ الْحُبَّ الرِّضَا وَالْإِثَابَةُ وَضِدَّهُ ضِدُّهُمَا، وَالْجَهْرُ يُقَابِلُ السِّرَّ وَالْإِخْفَاءَ وَالْكِتْمَانَ، وَالسُّوءُ مِنَ الْقَوْلِ: مَا يَسُوءُ مَنْ يُقَالُ فِيهِ، كَذِكْرِ عُيُوبِهِ وَمَسَاوِيهِ، وَاللهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَجْهَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِذِكْرِ الْعُيُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الْجَهْرِ مَفْسَدَتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ مَجْلَبَةٌ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ مَنْ يَجْهَرُونَ بِالسُّوءِ وَمَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ هَذَا السُّوءُ، وَقَدْ تُفْضِي الْعَدَاوَةُ إِلَى هَضْمِ الْحُقُوقِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ.
ثَانِيَتُهُمَا: أَنَّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ بِذِكْرِهِ عَلَى مَسَامِعِ النَّاسِ يُؤَثِّرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ تَأْثِيرًا ضارًّا؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَقْتَدِي بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَمَنْ سَمِعَ إِنْسَانًا يَذْكُرُ آخَرَ بِالسُّوءِ لِكُرْهِهِ إِيَّاهُ أَوِ اسْتِيَائِهِ مِنْهُ يُقَلِّدُهُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ إِذَا كَانَ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مِثْلُهُ، وَيَزْدَادُ ضَرَاوَةً فِيهِ إِذَا كَانَ قَدْ سَبَقَ وُقُوعُهُ مِنْهُ، أَوْ يُقَلِّدُ فَاعِلَ السُّوءِ فِي عَمَلِهِ، خُصُوصًا إِذَا كَانَ السَّامِعُ مِنَ الْأَحْدَاثِ الَّذِينَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التَّقْلِيدُ، أَوْ مِنْ طَبَقَةٍ دُونَ طَبَقَتِهِ فِي الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ يُقَلِّدُونَ خَوَاصَّهُمْ، فَإِذَا ظَهَرَتِ الْمُنْكَرَاتُ فِي الْخَوَاصِّ لَا تَلْبَثُ أَنْ تَفْشُوَ فِي الْعَوَامِّ، وَمَنْ تَمِيلُ نَفْسُهُ إِلَى مُنْكَرٍ أَوْ فَاحِشَةٍ يَتَجَرَّأُ عَلَى ارْتِكَابِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ سَلَفًا وَقُدْوَةً فِيهِ، وَرُبَّمَا لَا يَتَجَرَّأُ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، بَلْ يُؤَثِّرُ سَمَاعُ الْقَوْلِ السُّوءِ فِي نُفُوسِ خَوَاصِّ الْكُهُولِ الْأَخْيَارِ، وَلَيْسَ تَأْثِيرُهُ مَقْصُورًا عَلَى الْعَوَامِّ وَالصِّغَارِ. فَسَمَاعُ السُّوءِ كَعَمَلِ السُّوءِ، ذَاكَ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَهَذَا يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ النَّاظِرِ، وَأَقَلُّ تَأْثِيرِهِ أَنَّهُ يُضْعِفُ فِي النَّفْسِ اسْتِبْشَاعَهُ وَاسْتِغْرَابَهُ، وَلاسيما إِذَا تَكَرَّرَ سَمَاعُ خَبَرِهِ أَوِ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَإِنَّنَا نَرَى عُلَمَاءَ التَّرْبِيَةِ يَجْعَلُونَ جَمِيعَ كُتُبِ التَّعْلِيمِ غُفْلًا مِنَ الْقَوْلِ السُّوءِ وَالْكَلِمِ الْخَبِيثِ وَمِنَ الرَّفَثِ وَأَسْمَاءِ أَعْضَاءِ التَّنَاسُلِ حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَهَا فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ الَّتِي يُرَاجِعُ فِيهَا طُلَّابُ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ حِرْصًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْ تَعْلَقَ بِهَا كَلِمَةٌ خَبِيثَةٌ مِنْ كَلِمِ السُّوءِ تَقُودُهَا إِلَى عَمَلِ السُّوءِ، وَرُبَّ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ تَفْتَحُ لِمَنْ تَعْلَقُ بِنَفْسِهِ بَابًا مِنَ الْفَسَادِ لَا يَنْجُو مِنْ شَرِّهِ أَبَدَ الْآبَادِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لِيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَرُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَيْضًا.
يَجْهَلُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَبْلَغَ تَأْثِيرِ الْكَلَامِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ؛ فَلَا يُنَزِّهُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ السُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ وَلَا أَسْمَاعَهُمْ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ، وَمَا يَعْقِلُ كُنْهَ ذَلِكَ إِلَّا الْعَالِمُونَ الرَّاسِخُونَ، وَإِنَّ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى كَلِمَةً شِعْرِيَّةً فِي الْمُبَالَغَةِ فِي تَمْثِيلِهِ لِلْفَهْمِ وَتَقْرِيبِهِ إِلَى الذِّهْنِ يَعُدُّهَا الْبَدِيعِيُّ مِنَ الْإِغْرَاقِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَهِيَ: إِنَّنِي إِذَا أَلْقَيْتُ كَلِمَةً فِي مَكَانٍ خَالٍ مِنَ النَّاسِ فِي حِنْدِسِ اللَّيْلِ فَإِنَّهَا تَبْقَى مُعَلَّقَةً فِي الْهَوَاءِ حَتَّى تُصَادِفَ نَفْسًا مُسْتَعِدَّةً فَتُؤَثِّرَ فِيهَا. أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ، وَقَدِ اتَّفَقَ لِأَهْلِ بَيْتٍ مِنْ فُضَلَاءِ الْأَمْرِيكَانِيِّينَ أَنِ اهْتَدَوْا إِلَى الْإِسْلَامِ فِي مِصْرَ وَصَارُوا يَتَرَدَّدُونَ عَلَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ لِأَخْذِ أَحْكَامِ الدِّينِ وَحِكَمِهِ عَنْهُ وَإِنَّهُ لَيُحَدِّثُهُمْ يَوْمًا وَإِذَا بِلِسَانِهِ قَدْ فَلَتَتْ مِنْهُ كَلِمَةُ الْيَأْسِ وَكَانَ فِي أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ فَتَاةٌ ذَكِيَّةُ الْفُؤَادِ فَقَالَتْ لِلْأُسْتَاذِ: كَيْفَ يَنْطِقُ مِثْلُكَ فِي عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهِيَ مِنَ الْكَلِمَاتِ ذَاتِ الْمَدْلُولَاتِ الضَّارَّةِ؟ فَأُعْجِبَ الْأُسْتَاذُ بِذَكَائِهَا وَفَهْمِهَا، وَوَافَقَهَا عَلَى قَوْلِهَا، وَأَظُنُّ أَنَّهُ اعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اجْتِنَابُهُ عِنْدَ بَيَانِ بَعْضِ الْحَقَائِقِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ كَمُلَتْ تَرْبِيَتُهُمْ، وَإِنَّمَا يُتَحَرَّى اجْتِنَابُ ذِكْرِهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فِي خِطَابِ النَّشْءِ فِي الْمَدَارِسِ وَالْبُيُوتِ. وَتَكَلَّمَ فِي تَأْثِيرِ الْكَلَامِ فِي كُلِّ سَامِعٍ. وَذَكَرَ كَلِمَتَهُ الَّتِي نَقَلْنَا آنِفًا، فَقَالَتْ لَهُ الْفَتَاةُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُفَسِّرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْجَلِيلَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ إِجْمَالِيًّا، فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهِ وَلَوْ فِي الْمَكَانِ الْخُلْوِ (أَوْ كَتَبَهُ) يَنْتَقِلُ مِنْ حَيِّزِ الْإِجْمَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّفْصِيلِ وَالْبَيَانِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِعَادَةُ ذِكْرِهِ عَلَى مَسَامِعِ النَّاسِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِمْ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهِمْ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: أَحْسَنْتِ.